فصل: (فرع: لو شك أثناء الصلاة أو دخل بلدًا فيها محاريب)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة:الصلاة فوق الكعبة]

وإن صلى على ظهر الكعبة، فإن لم يكن بين يديه سترة متصلة بالبيت.. لم تصح صلاته.
وقال أبو حنيفة: (تصح).
دليلنا: ما روي عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سبعة مواطن لا تجوز فيها الصلاة فذكر فيها: فوق بيت الله العتيق».
ولأنه صلى عليها، ولم يصل إليها من غير عذر، فأشبه إذا نزل واستدبرها.
فقولنا: (من غير عذر) احتراز من صلاة الخوف، ومن صلاة النفل في السفر.
وإن كان بين يديه سترة غير متصلة بالبيت، كالأحجار التي ليست بمبنية.. لم تصح صلاته؛ لأنها ليست من جملة البيت.
وإن كانت مبنية عليه، أو مسمرة.. صحت صلاته؛ لأنها صارت من البيت.
وإن كانت فيه عصا مغروزة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح استقبالها؛ لأن المغروز من البيت، ولهذا تدخل الأوتاد المغروزة في بيع البيت.
والثاني: لا يصح؛ لأنها غير متصلة بالبيت.
وإن نبتت شجرة في البيت، وعلت على ظهره، فاستقبلها على ظهره. فهل تصح صلاته؟ فيه وجهان، حكاهما في "العدة".
وهل يعتبر أن تكون السترة فوق ظهر الكعبة مقدرة؟
فيه وجهان، حكاهما في "العدة".
أحدهما: أنه يعتبر أن تكون بقدر قامة المصلي ليكون مستقبلا لها بجميع بدنه.
والثاني: - وهو قول القفال -: يكفيه أن تكون بقدر مؤخرة الرحل، وإن كان دونها.. لم يصح.
وقد ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أن عتبة الباب إذا كانت شاخصة وإن قلت... صح استقبالها ولا فرق بين الجميع.
وإن هدمت الكعبة - وأسال الله الكفاية -وبقت عرصة، لا بناء فيها، فإن خرج عن العرصة، وصلى إليها.. جاز، وإن وقف في العرصة، وصلى إلى ما بين يديه منها.. ففيه وجهان:
أحدهما قال أبو العباس: يصح؛ لأنه صلى إلى ما بين يديه من أرض البيت، فهو كما لو خرج من العرصة، وصلى إليها.
والثاني: قال أبو إسحاق: لا يصح. وهو المنصوص، كما لو صلى على سطحه، ولا سترة قدامه.

.[مسألة:صلاة من ليس بحضرة البيت]

ومن لم يكن بحضرة البيت.. ينقسم على أربعة أضرب:
ضرب: يتيقن إصابة الكعبة وإن لم يكن مشاهدا لها، كمن نشأ بمكة... فإنه يعلم - بجري العادة - القبلة، ويتيقنها وإن غاب عنها في بيته. وكذا من صلى إلى محراب مسجد المدينة، أو إلى محراب مسجد صلى فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه لا يقر على الخطأ.
وضرب: يرجع إلى إخبار غيره، فإن أخبره غيره عن علم، بأن يكون على رأس جبل، ويشاهد الكعبة منه... فيلزمه قبول خبره ولا يجتهُد؛ لأن الخبر مقدم على الاجتهاد.
قال الشافعي رحمة الله: (وكذلك، إذا ورد رجل على مياه قوم، فأخبروه: بأن القبلة في هذه الجهة... رجع إلى قولهم وإخبارهم).
فإن أخبره صبي عن القبلة.. فحكى الخضري عن الشافعي: (أنه لا يقبل). وحكى الشيخ أبو زيد: (أنه يقبل).
فمن أصحابنا من قال: هي على حالين: فحيث قال: (لا يقبل) إذا كان عن اجتهاد. وحيث قال: (يقبل)... إذا كان عن مشاهدة.
وقال القفال: في قبول إخباره بذلك، وبالخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وجهان.
وأما دلالة المشرك على القبلة: فلا تقبل، وإنما تقبل في الإذن في دخول الدار، وفي قبول الهدية؛ لأن ذلك يقبل من الصبي، فكذلك من الكافر.
وقال القاضي أبو الطيب: وكذلك الفاسق عندي يقبل في هذين؛ لأنه أحسن حالا من الكافر.
والضرب الثالث: من يرجع إلى اجتهاد غيره، وهم العميان، ومن لا بصيرة له ويأتي ذكرهم.
والضرب الرابع: من يرجع إلى استدلاله واجتهاده، وهو إذا لم يتيقن القبلة، ولم يجد من يخبره، وهو ممن يعرف دلائل القبلة... فينظر فيه: فإن كان بينه وبين البيت حائل أصلي، كالجبل.. جاز له الاجتهاد، والاستدلال على القبلة بالشمس، والقمر، والنجوم والرياح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16].
ولا يلزمه صعود الجبل؛ لأن في تكليف ذلك مشقة. ولأنا لو ألزمناه ذلك.. للزم من كان بينه وبين الكعبة ميل أو ميلان: أن يمضي إليها ويشاهدها، ولو ألزمناه ذلك.. لم ينفصل عمن بينه وبين [الكعبة] مسيرة يوم أو أكثر: أن يمضي إليها، فسقط ذلك عن الجميع.
وإن كان بينه وبين الكعبة حائل طارئ، كالبناء... ففيه وجهان.
أحدهما: لا يجوز له الاجتهاد - ولم يذكر في "التعليق" و" المجموع " غيره - لأن الاجتهاد كان لا يجوز في هذا الموضع قبل حدوث البناء، فلم يتغير الحكم بحدوثه.
والثاني: يجوز. قال الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ: وهو الأصح؛ لأنه لا يرى البيت، فهو كما لو كان الحائل أصليا.
وإذا ثبت هذا: ففي فرض المجتهد قولان:
أحدهما: (أن فرضه إصابة الجهة دون العين) وهو قول أبي حنيفة.
وروي عنه: أن قال (قبلة العراق ما بين مطلع الشمس ومغربها).
لأنه لو كان الفرض هو إصابة العين... لما صحت صلاة الصف الطويل؛ لأن فيهم من يخرج عن العين.
والثاني: (أن الفرض هو إصابة العين)؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] ولم يفرق.
ولأن من لزمه فرض القبلة.. لزمه إصابة العين، كالمشاهد للكعبة.
وأما صلاة أهل الصف: فإنما صحت؛ لأن مع البعد يتسع الصف المحاذي، ألا ترى أن الناس إذا صلوا ملاصقين للكعبة.. فإن المستقبل لها عدد يسير، فإذا بعدوا، فصلوا في آخر المسجد... استقبلها أكثر؟ وكذلك النقطة إذا دور حولها دائرة... كانت صغيرة؛ لقربها من النقطة، فإذا زاد خلف الأولى دائرة ثانية... كانت أكبر من الأولى؛ لبعدها من النقطة، وجميع الدائرة في الحالتين مستقبل للنقطة؟

.[فرع: المجتهدان في القبلة]

وإن اجتهد رجلان في القبلة... نظرت: فإن أداهما اجتهادهما: أن القبلة في جهة واحدة... استحب لهما: أن يصلي أحدهما بالآخر؛ لأن صلاة الجماعة مندوب إليها.
وإن اختلف اجتهادهما، فأدى اجتهاد أحدهما: أن القبلة في غير الجهة التي أدى اجتهاد الآخر إليها.. صلى كل واحد منهما إلى الجهة التي أداه اجتهاده إليها، ولا يأتم أحدهما بالآخر.
وقال أبو ثور: يجوز أن يأتم أحدهما بالآخر، ويصلي كل واحد منهما إلى الجهة التي أداه اجتهاده إليها، كمن يصلي حول الكعبة.. فإنه يجوز لمن يصلي إلى جهة منها: أن يأتم بمن يصلي إلى الجهة الأخرى.
دليلنا: أن كل واحد منهما يعتقد بطلان اجتهاد صاحبه وبطلان صلاته، فلا يجوز أن يعلق صلاته بصلاة باطلة، بخلاف من يصلي إلى جهتي الكعبة.. فإن كل واحد منهما يعتقد صحة صلاة صاحبه.

.[فرع: الاجتهاد في القبلة لصلاتين أو صلى شاكا]

وإن صلى إلى جهة بالاجتهاد، ثم حضرت صلاة أخرى، ولم يتغير اجتهاده الأول.. فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه أن يعيد الاجتهاد، بل يصلي إلى الجهة الأولى؛ لأنه قد عرف القبلة بالاجتهاد الأول.
والثاني: يلزمه أن يجتهد للصلاة الثانية، كما لو حكم الحاكم بقضية بحكم، ثم حضرت مرة أخرى... فإنه يعيد الاجتهاد لها ثانيًا.
فإن أداه اجتهاده: إلى الجهة الأولى... صلى إليها، ولا كلام.
وإن أداه اجتهاده: أن القبلة في غير تلك الجهة.. صلى الصلاة الثانية إلى الجهة الثانية، وهل يلزمه الإعادة؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها الخضري.
أحدهما: وهو المذهب -: أن لا يلزمه إعادة واحدة منهما؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله. ولأنه لا يؤمن أن يؤديه الاجتهاد إلى القبلة في جهة ثالثة ورابعة، أو أن القبلة في الجهة الأولى.
والثاني: يلزمه أن يعيد الصلاتين؛ لأنه يتيقن أنه صلى إحداهما إلى غير القبلة فلزمه إعادتهما، كمن نسي صلاة من صلاتين، لا يعرف عينها منهما.
والثالث أنه يعيد الأولى؛ لأن الاجتهاد الثاني هو المعول عليه في هذه الحالة، والأول هو المشهور.
وإن اجتهد في القبلة فأداه اجتهاده إلى: أن القبلة في جهة، فصلى إلى غيرها، ثم بان أنها القبلة.. لم تصح صلاته. وبه قال أبو حنيفة.
وقال أبو يوسف: تصح.
دليلنا: أنه ترك التوجه إلى ما أداه إليه اجتهاده، وصلى إلى ما ليس بقبله عنده،
فلم يصح بالتبين، كما لو استفتح الصلاة وهو يشك: أنه توضأ، أم لا؟ ثم بان أنه كان متوضئًا.

.[فرع: التيقن بعد الاجتهاد أو كان له اجتهادان]

إذا صلى إلى جهة بالاجتهاد، فلما فرغ من الصلاة تيقن أنه صلى إلى غير جهة القبلة.. فهل تلزمه الإعادة؟ فيه قولان.
أحدهما: لا تلزمه الإعادة. وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد.
ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» وأراد: حكم الخطأ.
وروى جابر قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سرية، وكنت فيها، فأصابتنا ظلمة، فلم نبصر معها القبلة، فقالت طائفة منها: قد عرفنا القبلة: قبل الشمال، وصلوا إليها، وخطوا خطا. وقال بعضهم: هكذا القبلة: نحو الجنوب، وصلوا إليها، وخطوا خطا. فلما أصبحنا وطلعت الشمس، أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة، فلما قفلنا من السفر... سألنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسكت، ولم يقل شيئا»، فنزل قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115].
وفي بعض الروايات: قال لهم: " قد أجزأتكم صلاتكم ".
ولأنها جهة مأمور بالصلاة إليها، فسقط الفرض بالصلاة إليها، كما لو صلى إلى غير جهة القبلة في شدة الخوف.
والقول الثاني: تلزمه الإعادة، وهو الأصح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150].
ولأنه تعين له يقين الخطأ فيما يؤمن مثله في القضاء، فوجب أن لا يعتد بما فعله، كالحاكم إذا حكم بحكم، ثم وجد النص بخلافه.
فقولنا: (تعين له) احتراز منه إذا صلى صلاتين إلى جهتين باجتهادين.. فإنه تيقن الخطأ في إحداهما، ولا إعادة عليه؛ لأنه لم يتعين الخطأ في إحداهما.
وقولنا: (يقين الخطأ) احتراز منه إذا صلى إلى جهة، ثم أداه اجتهاده إلى: أن القبلة في جهة أخرى.. فإنه قد تعين له الخطأ، ولا تلزمه الإعادة؛ لأنه لم يتيقن ذلك، وإنما ذلك من طريق الاجتهاد.
وقولنا: (فيما يؤمن مثله في القضاء) احتراز من الأكل في الصوم ناسيا، ومن الوقوف بعرفة يوم الثامن، أو يوم العاشر، على وجه الخطأ؛ لأنه لا يؤمن مثله - في القضاء - الخطأ.
وأما حديث جابر: فلا حجة فيه؛ لأن القوم كانوا صلوا تطوعا، هكذا روي عن ابن عمر: أنه قال: (نزلت هذه الآية في التطوع).
ولنا مثل هذه المسألة مسائل على قولين.
منها: إذا صلى، ثم بان أنه كان في ثوبه نجاسة لم يعلم بها حتى فرغ منها.
ومنها: إذا صلت الأمة مكشوفة الرأس، فأعتقت في أثناء الصلاة، وبقربها سترة، ولم تعلم بالعتق أو بالسترة إلا بعد الفراغ من الصلاة.
ومنها: إذا ترك فاتحة الكتاب ناسيا.. هل تلزمه الإعادة؟ على قولين.
ومنها: إذا دفع الزكاة إلى من ظاهره الفقر، ثم بان أنه غني.. فهل يلزمه الضمان؟ قولان.
ومنها: إذا صام الأسير شهرًا بالاجتهاد، ثم بان بعد رمضان أنه صام شعبان... هل يجزئه؟ فيه قولان.
إذا ثبت هذا: فقد اختلف أصحابنا الخراسانيون في موضع القولين في القبلة.
فمنهم من قال: القولان، إذا بان له يقين الخطأ مع يقين الصواب، فأما إذا بان له يقين الخطأ دون يقين الصواب: فلا يعيد، قولا واحدًا.
ومنهم من قال: القولان، إذا بان له يقين الخطأ، دون يقين الصواب، فأما إذا بان له اليقينان معا: فيعيد قولا واحدا.
ومنهم من قال: القولان في الجميع، وهو قول الشيخ أبي حامد.
وإن بان له يقين الخطأ، وهو في أثناء الصلاة.. نظرت.
فإن كان ذلك في جهتين، مثل: أن كان قد استفتح الصلاة إلى جهة الغرب، فبان أن القبلة في الشرق... بنى ذلك على القولين - فيمن بان له اليقين بعد الفراغ من الصلاة -.
فإن قلنا: يعيد بعد الفراغ.. استأنف هاهنا الصلاة.
وإن قلنا - هناك -: لا يعيد.. فهاهنا وجهان:
أحدهما: ينحرف إلى الجهة الثانية، ويبني على صلاته؛ لأن ما فعله قد صح.
والثاني: يلزمه أن يستأنف الصلاة؛ لأن الصلاة بعد الفراغ منها كالقضية المبرمة وقبل الفراغ منها كغير المبرمة.
قال ابن الصباغ: وهذا يحتاج إلى تفصيل، فإن كان حين بان له الخطأ، بانت له جهة القبلة لوقته.. تحول إليها، وهل يبني، أو يستأنف؟ على ما مضى.
وإن لم يتبين له جهة القبلة، بل يحتاج إلى اجتهاد... بطلت صلاته؛ لأنه لا يستديم الصلاة إلى غير القبلة.
وإن كان ذلك في جهة واحدة - مثل: أن كان قد صلى إلى جهة الغرب بالاجتهاد، ثم بان له بعد ذلك أن الكعبة في غير السمت الذي صلى إليه، وإنما هي في غيره في تلك الجهة:
قال الشيخ أبو حامد: فإن الشافعي يذهب إلى: أنه لا يتيقن أحد بالاجتهاد عين الكعبة في بعض الجهة دون بعضها، وإنما يتيقن ذلك بالمشاهدة.
فعلى هذا: يلزمه الانحراف إلى الثانية؛ لأنها هي القبلة عند المجتهد في هذه الحالة، ولا يلزمه استئناف الصلاة؛ لأنه لا يتيقن أن الأولى ليست بقبلة.
قال: ومن أصحابنا من قال: يمكن أن يتيقن بالاجتهاد أن عين الكعبة في بعض الجهة دون بعض، فيلزمه الانحراف إلى الثانية، وهل يبني، أو يستأنف؟.
على القولين في أن فرض المجتهد: هل هو إصابة العين، أو الجهة؟
فإن قلنا: فرضه الجهة... لم يلزمه الاستئناف، قولا واحدًا.
وإن قلنا: إن فرضه إصابة العين.. كان على قولين -كما لو صلى إلى جهة، ثم تيقن أنها ليست بجهة القبلة-:
فإن قلنا - هناك -: يعيد.. لزمه هاهنا أن يستأنف.
وإن قلنا - هناك -: لا يعيد... فهاهنا وجهان، مضى ذكرهما.
وأما إذا أداه اجتهاده إلى أن القبلة في جهة، ثم بان له باجتهاد ثان أن القبلة في غير تلك الجهة: فإن بان له ذلك قبل الدخول في الصلاة... لزمه أن ينحرف إلى الثانية، ويصلي إليها.
وإن بان له ذلك في أثناء التكبيرة.. لزمه أن يستأنف التكبيرة أيضا إلى الجهة الثانية؛ لأنه لم يأت بما يُسمى صلاة.
وإن بان له بعد فراغه من تكبيرة الإحرام... فإنه ينحرف إلى الجهة الثانية، وهل يستأنف الصلاة، أو يبني على إحرامه؟ فيه وجهان:
الأول: من أصحابنا من قال: يلزمه أن يستأنف؛ لأن الصلاة الواحدة لا تؤدى باجتهادين، كما لا يحكم الحاكم في قضية واحدة باجتهادين.
والثاني - وهو المنصوص -: أنه يبني على إحرامه؛ لأن الاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله، ويخالف حكم الحاكم؛ لأن حكم الحاكم هو قوله: حكمت، وأمضيت. ولا يتصور تبعيض ذلك؛ لأن اجتهاده إن تغير قبله... فإنه يحكم بالثاني، وإن تغير بعده.. فإنه لا ينقض الأول، وليس كذلك ما فعل من الصلاة؛ لأنه كالحكم الذي نفذ، فلا ينقض باجتهاد ثان.

.[فرع: تغير الاجتهاد للجماعة]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأم [1/82] (وإذا اجتهد جماعة في القبلة، فأداهم اجتهادهم إلى جهة واحدة، فأمهم أحدهم، ثم تغير اجتهاد بعضهم في أثناء الصلاة، فإن تغير اجتهاد الإمام... فعليه أن ينحرف إلى الجهة الثانية، ولا يلزم المأمومين اتباعه، بل ينوون مفارقته؛ لأن اعتقادهم بطلان اجتهاده، وإن تغير اجتهاد المأمومين.. فعليهم أن ينووا مفارقته، وينحرفوا إلى الثانية).
وهل يبنون، أو يستأنفون على ما مضى.
فإذا قلنا: يبنون.. لم تبطل صلاتهم؛ لأنهم فارقوه بعذر.

.[فرع: لو شك أثناء الصلاة أو دخل بلدًا فيها محاريب]

قال في الأم [1/82] (وإذا دخل في الصلاة بالاجتهاد، ثم شك في أثناء الصلاة: أن تلك جهة القبلة، أم لا؟ فعليه أن يمضي في صلاته، ولا ينحرف؛ لأنه دخل في الصلاة بالاجتهاد، والاجتهاد إنما يتغير باجتهاد، أو يقين، فأما الشك: فلا يؤثر فيه).
قال في الفروع إذا دخل بلدا، ووجد فيها محاريب، فإن لم يعرف أن تلك المحاريب مما بناها المسلمون... فلا يجوز له استقبالها، ويجتهد.
وإن عرف أنها من بناء المسلمين، فإن كان ذلك البلد من البلاد التي صلى فيها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -.. وجب اتباعهم.
وإن كانوا لم يصلوا فيها، فإن كان القوم الذين بنوها في الكثرة بحيث يقع التواتر في خبرهم، ويصير إجماعهم قاطعا لوجوه الاجتهاد.. صلى إليها.
وإن كان عددهم قليلًا، أو كانت في بلد مختلفة.. فعلى المصلي أن يجتهد فيها.

.[مسألة:تقليد الأعمى ونحوه لجهة القبلة]

وإن كان ممن لا يعرف الدلائل، ولا يعرفها إذا عرف بها.. فهو كالأعمى، وفرضهما: التقليد؛ لأنه لا فرق في ذلك بين أن يعدم البصر، أو يعدم البصيرة.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويقلد من يصدقه: من حر، وعبد، وامرأة؛ لأنهم من أهل الاجتهاد).
فإن كان هناك جماعة، واتفقوا على جهة واحدة... كان له أن يقلد أيهم شاء.
وإن اختلفوا في الجهات... استحب أن يقلد أوثقهم وأعلمهم، وأيهم قلد.. جاز؛ لأنه قلد من يجوز له تقليده.
وإن لم يجد - من فرضه: التقليد - من يقلده.. صلى على حسب حاله، وأعاد إذا قدر وإن كان قد أصاب القبلة؛ لأنه استفتح الصلاة وهو شاك في القبلة.

.[فرع: اختلاف قول المقلد أو خطأه غيره]

وإن دخل المقلد في الصلاة بالتقليد وفرغ منها، ثم قال له من قلده: القبلة في غير الجهة التي صليت إليها، فإن بان له ذلك باجتهاد... لم يجب على المصلي الإعادة؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله، وإن بان له بيقين.. كان في وجوب الإعادة عليه قولان.
وإن قال له آخر - في أثناء الصلاة -: قد أخطأ بك الأول، والقبلة في جهة أخرى - وكان قول الثاني عن اجتهاد - فإن كان الثاني كاذبا عنده.. لم يجز له الرجوع إلى قوله.
وإن كان الثاني أصدق من الأول عنده.. فعليه أن ينحرف إلى الجهة الثانية؛ لأن الثاني أولى من الأول عنده، ولا يستأنف الإحرام؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله.
وإن كان الثاني عنده مثل الأول في الصدق... فعليه أن يمضي في صلاته، ولا ينحرف؛ لان الاجتهاد لا ينقص بمثله.
وإن قال الثاني ذلك له على وجه الإخبار عن مشاهدة... لزمه الانحراف إلى الجهة الثانية، وهل يلزمه الاستئناف؟
على القولين في البصير إذا تيقن الخطأ.

.[فرع: معرفة الأعمى القبلة]

وإن عرف الأعمى القبلة باللمس، فصلى إليها... أجزأه؛ لأن ذلك بمنزلة الخبر.
وإن دخل الأعمى في الصلاة بالتقليد، ثم أبصر في حال الصلاة، فإن بان له حين أبصر: أن الجهة التي يصلي إليها جهة القبلة.. أتم صلاته.
وإن احتاج إلى الاجتهاد.. بطلت صلاته؛ لأنه صار من أهل الاجتهاد.
وإن دخل البصير باجتهاده في الصلاة، ثم عمي في أثنائها... مضى على صلاته؛ لأن اجتهاده أولى من اجتهاد غيره، فإن تحول عنها... بطلت صلاته؛ لأنه لا يمكنه الرجوع إليها، ويحتاج أن يقلد، وذلك لا يمكنه في الصلاة.